بيان دياب || تحقيق صحفي
اللوحة : ولاء طرقجي
تُطلق صفة عديمي/عديمات الجنسية على الأشخاص الذين لا تعتبرهم أي دولة مواطنين فيها بمقتضى تشريعتها، وفقاً للقانون الدولي، ولا يستطيع عديمو/عديمات الجنسية في أغلب الأحيان الحصول على أوراق ثبوتية ويعانون من القيود الصارمة المفروضة على حقوقهم وحرياتهم.
وتعود هذه الحالة بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لأسباب عديدة منها التمييز ضد مجموعات إثنية أو دينية معيّنة، أو على أساس نوع الجنس، ونشوء دول جديدة ونقل ملكية الأراضي بين الدول القائمة، والثغرات في القوانين الجنسية، كما ويمكن أن يكون انعدام الجنسية ناجماً عن فقدان الجنسية أو الحرمان منها ويضاف إلى ذلك الأطفال الذين لا تعرف الدولة أو الجنسية التي ينتمي لها آبائهم في بلد تُكتسب فيه الجنسية على أساس النسب من أحد المواطنين، وأيضا في حالة عدم السماح لأحد الوالدين بمنح جنسيته لأولاده، وتحرم المرأة وفقاً للقوانين في 27 بلد من منح جنسيتها لأطفالها.
وتعدّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موطناً لمئات الآلاف من الأفراد عديمي/عديمات الجنسية وبالتركيز على حالات انعدام جنسية الأطفال في سوريا والتي ازدادت بشكل كبير وملحوظ منذ بداية الحرب في سوريا عام 2011، لتصل إلى مئات آلاف الأطفال الذين حرمتهم الحرب من آبائهم ما زاد من خطر انعدام الجنسية بصورة كبيرة داخل سوريا وخارجها، والآثار المترتبة على ذلك حيث لا تقتصر حالات “عديمي/عديمات الجنسية” في سوريا على الحالات المعروفة من قبل 2011 مثل الكرد المحرومين من الجنسية، ، وأبناء السوريات المتزوجات من غير سوري، والمعارضين السياسيين، وبعض الحالات الأخرى، وإنما اتسعت الفئات بعد عام 2011 لتطال الأطفال مجهولي الوالدين نتيجة الحرب، أو الأطفال الذين ولدوا لمغتصبات في مراكز الاحتجاز أو على الحواجز الأمنية، أو أطفال لعائلات فقدت أوراقها الثبوتية خلال القصف والنزوح والتهجير ، أو أبناء السوريات اللاواتي تزوجن من مهاجرين أجانب جاءوا للقتال في سوريا.
وبالتركيز على الفئة الأخيرة من الأطفال لآباء أجانب دخلوا إلى سوريا بطرق غير شرعية منذ عام 2012 ولا يعرف عنهم أسمائهم أو بلدانهم الحقيقية وإنما جميع معلوماتهم مزيّفة غالبا وذلك لأسباب أمنية متعلقة بوضعهم، فنتج عن ذلك مشكلة انعدام الجنسية لأطفالهم، والتي أدت إلى مشاكل وصعوبات جمّة يواجهها الأطفال بأنفسهم ويدفعون من خلالها ثمن ذنب لم يقترفوه ولم يكن لهم إرادة فيه.
انعدام الجنسية وأثرها على حياة الأطفال
“كل ما أتمناه أن أرى ابتسامة ابنتي التي نادراً ما ألمحها، وأرى تفاعلها مع أقرانها والآخرين” تقول السيدة “مريم” وهي والدة لطفلة من رجل مقاتل أجنبي تم تزويجها به بعد أن تعرضت لعملية احتيال عبر الإنترنت وتم استجرارها إلى مدينة الرقة عام 2017 والتي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”
لم تعرف مريم معلومات عن الزوج سوى اسمه الأول وأنه من دولة “الجزائر” دون أن ترى أي ثبوتيات تؤكد اسمه أو بلده، كما ولم تلبث معه سوى فترة قصيرة حتى حملت بابنتها “أمل” وقبل أن تبلغ أمل عامها الأول تم القضاء على تنظيم الدولة في تلك المنطقة، ونقلت أمل برفقة والدتها إلى مخيم “الهول” الذي يضم حالياُ ما يقارب 50 ألف فرد، 90 في المائة منهم من النساء والأطفال بحسب “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”
وقد أكدت المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسف العالمية على أن هذه الفئة من الأطفال من بين الأطفال الأشد ضعفاً في العالم، ويعيشون في ظروف فظيعة وسط تهديدات مستمرة إزاء صحتهم وأمنهم ورفاههم، ولا يتوفر لهم إلا دعم أسري ضئيل حيث أن العديد منهم وحيدون تماماَ ومعظمهم تقطّعت بهم السبل برفقة أمهاتهم أو مقدمي الرعاية الآخرين، ويواجه هؤلاء الأطفال رفضاً مضاعفاً من قبل المجتمع ووصمة مجتمعية تزيد الوضع سوءاً، كما ويواجهون تحديات قانونية وسياسية هائلة في الحصول على الخدمات الأساسية.
وتقدّر اليونيسف بأنه يوجد في سوريا ما يقارب 29000 طفل أجنبي معظمهم ممن تقل أعمارهم عن 12 سنة، وهم جميعاً ضحايا لظروف مأساوية وانتهاكات جسيمة لحقوقهم، ويجب التعامل معهم والاعتناء بهم كأطفال.
وأول مايواجه هؤلاء الأطفال فقدان الهوية والانتماء الثقافي ما يمكن أن يؤدي إلى إعاقة نفسية واضطرابات السلوك الاجتماعي لينتهي بهم الأمر إلى النقمة على المجتمع وذلك بحسب الأخصائية النفسية العاملة شمال سوريا “هاجر الاسماعيل”.
والتي أوضحت أن أركان الهوية تشمل، الاسم واللقب العائلي وتاريخ الولادة والجنسية وغالبا مايفقد الأطفال “عديمي/عديمات الجنسية” أحد أركان الهوية أو معظمها، كما وتعتبر الهوية قيمة أساسية وهي من الحقوق التي تجعل الفرد يحترم حياته وصلته بعائلته ووطنه باعتبارها من الحقوق اللصيقة بالشخصية.
كما ويشمل الانتماء الثقافي الشعور بالهوية والتمييز عن الثقافات الأخرى، حيث أن هذا الانتماء يؤثر على كيفية رؤية الفرد لنفسه وللعالم من حوله، ويشكل أساساً للاندماج الاجتماعي والتواصل بشكل فعّال داخل المجتمع وبفقدانه تنعدم روابط التواصل داخل المجتمعات المتنوعة.
كما وقد اتفق علماء النفس والاجتماع على مبدأ مفاده أن الطفل مرآة عاكسة لمنشئه أو لمولده ومحيطه الأسري ولذلك فهو لديه حاجات نفسية واجتماعية في أن يكون ملحقاً بأمه ولكن المجتمع حدد أن درجة الأهمية ربما أشد إلى أبيه وذلك بواسطة حمل لقبه.
وكنتيجة متوقعة لما يعيشه الأطفال من صراعات داخلية وتأثيرات وعوامل خارجية، تؤكد “الاسماعيل” تأثر الأطفال نفسياً بذلك الوضع الاجتماعي، حيث ينتابهم الشعور بضعف الثقة والدونية وفقدان الانتماء مما يؤدي إلى مشاعر القلق والخوف والاكتئاب، نتيجة الظروف القاسية والعنف الذي يتعرضون له، بالإضافة لاضطرابات النوم والتغذية بسبب التوتر النفسي الناجم عن العنف الممارس ضدهم، ليصل بهم الحال إلى العزلة الاجتماعية نتيجة الصدمات النفسية في الكثير من الأحيان حيث يتعرض الأطفال أحيانا للتنمر أو التمييز من قبل الآخرين أو العنف الجسدي والجنسي وغير ذلك من أشكال العنف التي ينتج عنها صدمات نفسية، ويصبحون أكثر تجنباً للاجتماعات والعلاقات الاجتماعية وانطوائهم على أنفسهم مما يؤدي إلي انفصالهم عن المجتمع وعدم التمتع بأبسط حقوقهم.
تقول “مريم” “استطاعت عائلتي أن تخرجني من المخيم بعد بقائي به لمدة عام كامل وسرعان ما تزوجت من رجل آخر لأختبئ به من نظرات الناس لي ولطفلتي وكلامهم عنا، عدا عن وضع عائلتي المأساوي بعد نزوحهم من بلدتنا الأساسية في ريف حماة إلى ريف حلب الشمالي، إلا أن حظي كعادته لم يحالفني أبداً وابتليت بحياة جديدة لا تقل مأساة عن سابقتها”
للمرة الثانية تكون “أمل” ضحية زواج والدتها التي لم يكن لها ذنب فيه، حيث تتعرض لكافة أنواع العنف على يد زوج أمها وذلك على مدار ثلاث سنوات متواصلة، وفي آخر مرة تعرضت بها “أمل” للضرب المبرح من قبل زوج أمها بقيت طريحة الفراش لأسبوع كامل دون أن تستطيع الحركة كما تقول والدتها.
تعاني “أمل” من حزن شديد لا يفارق محياها وعزلة لا تجعلها تتفاعل مع الآخرين بسهولة وقلق يوقظها من نومها عشرات المرات وهي خائفة، حتى أنها باتت تعاني من ظهور بثور شديدة الالتهاب على وجهها تعتقد والدتها أن ظهورها مرتبط بما تتعرض له.
ليس ذلك فحسب وإنما يتم منعها من الأكل أحيانا أو البكاء بصوت مسموع أو دموع ظاهرة، كل ذلك وأكثر دون قدرة الأم على منع ذلك العنف ضد ابنتها والذي كثيرا ما يطالها بطرق أبشع.
تقول “مريم” “حاولت أن أعطي ابنتي لاحدى العائلات في احدى المرات دون أي مقابل من أجل أن ينتهي عذابها معي رغم خوفي عليها إلا أن ذلك جعلها تخاف أكثر وتبكي أكثر وسرعان ما توسّط بعض الناس عند زوجي حتى يكف عن إيذائها وتوعّد بأنه لن يتعرض لها مرة أخرى لكنه سرعان ما نقض وعده وعاد كسابقه وأكثر”
وفيما يتعلق بثبوتيات الطفلة، بالطبع لم تستطع الحصول على لقب والدها الحقيقي لأنه غير معروف لدى الأم ولا يوجد أي عقد زواج يساعد في ذلك، إلا أنها استطاعت تسجيلها باسم زوجها الحالي بطرق مزوّرة حتى تستطيع أن تتلقى العلاج داخل المستشفيات التركية بعد أن تعرضت لإصابة خطيرة في وجهها فرضت عليهم تحويلها من سوريا إلى تركيا.
كما ويمكن أن يكون لهذه العملية آثار سلبية على الطفلة في المستقبل، تدفعها للخوض في مشاكل يصعب حلها.
حقوق منتهكة لدى الأطفال “عديمي الجنسية”
بشكل عام يمنع انعدام الجنسية الأطفال من أب أجنبي في سوريا من الحصول على حقهم في الهوية والوثائق الخاصة بالهوية ويعرضهم لمشاكل في التسجيل المدني مما يؤثر على حقوقهم الأساسية في التعليم والرعاية الصحية وحق الحماية في حالات النزاع واللجوء وخلال تعرضهم للعنف والاستغلال، كما أخبرتنا الحقوقية شمال سوريا “ثناء أحمد”.
مع التنويه من قبلها إلى اختلاف مناطق السيطرة في سوريا وخضوعها لأربعة حكومات مختلفة تعمل كل منها على القانون الذي يتناسب معها، ولكن بالمجمل يبقى وضع هؤلاء الأطفال معقداً على الرغم من قبولهم في بعض مناطق السيطرة وفق معايير وطرق خاصة بهم.
من جهة أخرى تقول المحامية ” ثناء أحمد” “وفقاً للقانون السوري يمكن للأم السورية منح جنسيتها لأطفالها في ظروف معيّنة، إذا ولد الطفل على الأراضي السورية، ولكن في ظل الوضع الراهن في سوريا نادرا ما تستطيع الأم منح جنسيتها لأطفالها وذلك لأسباب عدّة، منها الصعوبة في امتلاك أو الحصول على الوثائق المدنية اللازمة من الهيئات القضائية المختلفة لتوثيق هويتهم القانونية ما ينتج عنه أطفال عديمي الجنسية، بالإضافة لزواج السوريات من أجانب أو عديمي الجنسية ما ينتج عنه أطفال مجهولي النسب ويستحيل السماح بمنحهم جنسية الأم السورية في الوقت الحالي”
وبالعودة لحقوق هؤلاء الأطفال المنتهكة، فإنهم يواجهون صعوبات في الوصول إلى التعليم بسبب قيود أو تمييز قائم على الجنسية، كما يمكن أن يكونوا عرضة للعنف والاستغلال بشكل أكبر من باقي الأطفال نظراً للظروف الصعبة التي يعيشونها والتي تجبرهم على العمالة المبكرة أو التجنيد القسري، وبالتأكيد قد يواجهون تحدّيات في الوصول إلى الخدمات الصحية بشكل كامل، مما يؤثر على سلامتهم الجسدية والصحية.
وتتطلب حماية حقوق هؤلاء الأطفال تدابير مشددة لضمان حقوقهم الأساسية وتوفير بيئة آمنة وداعمة لنموهم الصحيح والمستدام، ويجب تيسير إجراءات تسجيل الميلاد لهم، حتى يكون لهم وثائق تمكنهم من الوصول إلى الخدمات الأساسية وفقاً للناشط المدني “أمجد المالح” الذي أكد على أهمية وصولهم إلى التعليم الجيد دون أية عوائق قانونية وضمان عدم تعرضهم للتمييز بسبب أصل آبائهم، بالإضافة إلى نشر الوعي حول أهمية تسجيل الميلاد والحقوق الأساسية لهؤلاء الأطفال، اتقاءا لأي ردات فعل في المستقبل يمكن أن تنتج عن ذلك الحرمان من قبل هؤلاء الأطفال.
وأكد “المالح” أن هذه الإجراءات تتطلب تعاوناً بين السلطات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني لضمان حماية حقوق هؤلاء الأطفال من جهة وسلامة المجتمع من جهة أخرى.
وبحسب اتفاقية حقوق الطفل، يحق لكل طفل/ة التمتع بجنسية حتى وإن كانوا عديمي/عديمات الجنسية، وتنص المادة 8 في الاتفاقية على “تقديم المساعدة والحماية المناسبتين، بهدف إعادة إثبات هويتهم على وجه السرعة”
ولا توجد حتى الآن أي مبادرات لحل مشكلة انعدام الجنسية لأطفال الأجانب المتواجدين في سوريا، بسبب عدم القدرة على تحديد الهوية الحقيقية لآباءهم، ليبقى هؤلاء الأطفال عرضة للعنف بأشكاله المختلفة والاستغلال الجنسي والجسدي وغير ذلك.
كما ويحتاج الحل إلى استقرار إداري وسياسي وعسكري بعد انتهاء الحرب في سوريا وهذا لايعني تجاهل وجوب إصدار قانون ينظم أحوال هؤلاء الأطفال المدنية لحين حل قضيتهم بشكل نهائي.
تم انتاج هذه المادة ضمن برنامج تدريب الصحفيات بالتعاون بين مبادرة القضاء على انعدام الجنسية وشبكة الصحفيات السوريات بدعم من مؤسسة EED